الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
رُهاب السعادة أو اضطراب
السعادة

هل يشك أحدٌ منا أن غاية الناس جميعًا هي الوصول إلى السعادة؟ فمع أن تعريفات السعادة تختلف من شخصٍ إلى آخر؛ فإننا جميعًا نبحث عما يسعدنا، وكلنا متفقون على أن سر السعادة يكمن في المتعة والابتهاج، وهذه المتعة ليس شرطًا أن تكون مع ثروة كبيرة أو حالة وفرة مادية؛ وإنما يكفي أن تتحقق في حدود المتاح، فطالما وُجِدَت المتعة فهناك سعادة بالتأكيد.

وكلنا يعرف أيضًا أن السعادة لا تدوم وأن الحزن لا يستمر؛ غير أن كثرة الشعور بالحزن والوحدة والخوف وعدم الإحساس بالأمان وتوالي الصدمات ولَّد عند الكثيرين خوفًا من السعادة، فنراهم قلقين مما سيحدث بعد حالة الضحك العارضة التي انتابتهم، وقد يتحول خوفهم من السعادة إلى عملٍ ما يبددون به سعادتهم وينكدون على أنفسهم! فمثلًا نجد أنفسنا أحيانًا بعد السرور نتحدث مباشرةً عن حادثةٍ مؤلمة أو ذكرى سخيفة أو ربما عبرنا عن استيائنا من أمرٍ معين، فنذكر الجفاء في وقت الصفاء، ونفسد اللحظة الودودة التي طالما تمنيناها.

وتتنوع مظاهر الخوف من السعادة لتأخذ أشكالًا عجيبة تعبر عن استدعاء الحزن خوفًا مما سيحدث من مصائب محتملة بعد حالة الفرح، فمثلًا في أيام الأعياد التي من شأنها أن تجعل حياتنا طبيعية بعد أن أحالتها الضغوط والصراعات إلى حياة غير طبيعية وغير آدمية، في أيام الأعياد هذه يأبى البعض إلا أن يستحضروا أحزان الفقد بالذهاب إلى المقابر لتجديد سيرة موتاهم في نفوسهم فيذوب العيد بمرحه وانطلاقه ويصبح يومًا كئيبًا، وكأن الأمور لا تنسجم إلا بالتعاسة، فإذا غابت عنا قلنا لها: مكانك، فنحن قومٌ تعساء لا يصلح لنا عيش إلا بالبكاء والعويل!

فهل لهذه الحالة أصلٌ في العلم؟ بالطبع لها أصل في مجال علم النفس الذي يفسرها ويطلعنا على أسبابها، وهي حالة لا يعيها إلا الفطن اللماح الذي يستطيع الملاحظة ويمتلك القدرة على معرفة الذات والآخرين بإعمال ذهنه وتفعيل حاسة التأمل والعقل المدرك، وميزة علم النفس هاهنا أنه يعطي هذه الحالة اسمًا علميًا ويوضح أسبابها وما لها من أعراض ومظاهر ثم يضع لها العلاج المناسب؛ وإن كان هذا العلاج حتى الآن لم يتطور بالشكل الكافي.

إن علم النفس يمنح ظاهرة الخوف من السعادة اسم "شيروفوبيا" وتعني الخوف الذي يجعل الشخص يتجنب تلقائيًا حالات السرور والراحة النفسية بطريقة لا تمت إلى المنطق بأية صلة، وتتكون كلمة "شيرو" من مقطعين؛ فالمقطع الأول مأخوذ من كلمة "تشيرو" اليونانية وتعني البهجة الغامرة، وأما "فوبيا" فمعناها الخوف المرضي، والمشكلة أن من يعانون من هذا "الرُّهاب" يحجمون عن ممارسة أي نشاط من شأنه أن يجعلهم مستمتعين.

وتتمثل أعراض الشيروفوبيا في رفض المناسبات المبهجة؛ فمثلًا يرفض بعض المرضى حضور الأعراس "حفلات الزواج" أو الرحلات؛ بل ويرفض بعضهم الفرص التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات إيجابية في حياتهم بسبب الخوف من البلاء الذي يعقبها في ظنهم، وهم لا يعترفون أن هذا مجرد ظن لأنهم يتعاملون معه معاملتهم للعقائد اليقينية الجازمة، ويتحول الأمر إلى مشكلة دينية تضاف إلى المشكلة النفسية، فهؤلاء المرضى يسيئون الظن بالخالق سبحانه، ومساعدتنا لهم على التعافي من هذه الأزمة النفسية هو خدمة نقدمها للدين ونتقرب بها إلى الله، لأننا نعيد لهم ثقتهم بأنفسهم وبالله عز وجل.

ولكن كيف نساعدهم؟ للأسف، حتى الآن لا توجد أدوية لهذا المرض، لأن الشيروفوبيا لم تُدرَس بشكلٍ وافٍ حتى يومنا هذا، ولا يُنظَر إليها باعتبارها اضطرابًا نفسيًا منفصلًا، ولذلك يكون العلاج المناسب هو العلاج المعرفي والسلوكي؛ أي أن نضع المريض وجهًا لوجه مع مشكلته ونوضحها له مبينين مكمن الخلل في تفكيره، فإذا فهمها يكون قد وصل إلى نصف العلاج، والنصف الآخر يظهر في تحديد السلوكيات التي تساعده على تخطي الأزمة، وأولها عدم الخوف والاستهانة بمشاعر القلق ودعوته إلى العمل المستمر ومكافأة نفسه على أي إنجاز ولو كان صغيرًا، وتبصيره بأهمية وحلاوة الأمل والنظرة المتفائلة ومحبة الله الرؤوف الودود.

وإذا كانت الشيروفوبيا مرتبطة بصدمة سابقة فإن حل هذه الصدمة ومساعدة المريض على الخروج منها سيفيد في العلاج طبعًا، ومن الممكن أن نحلل الصدمة لتبدو تافهة مع إفهام المريض أن الحياة كلها صدمات وأن هذه الصدمات تقويه وتدعمه وتجعله أكثر حكمة وفهماً.

وهناك أيضًا تمرينات أعتقد أنه من المناسب ممارستها كل يوم، فلا بد من المشي المنتظم لمدة ساعة يوميًا بخطوة معتدلة ولمسافة غير قصيرة، وكذلك تمرينات التنفس العميق، والتعرض للمتعة، بمعنى الدخول في نشاط يجلب الفرح والضحك، وتذكير أنفسنا بأنه ليس من الضروري أن كل حادث سعيد يتبعه حادث مؤلم أو سخيف.

ولأن "من جاور السعيد يسعد" فمن الملائم جدًا تجنب الأشقياء ومحبي التعاسة، والارتباط بالأشخاص المرحين، وأن نعيش اللحظة، فالماضي قد مضى ولن يعود، ومن الحماقة أن نبكي على الحليب المسكوب، والمستقبل لا ندري عنه شيئًا؛ غير أن الحاضر هو ما نملكه فلا بد من استغلاله على الوجه الأمثل حتى لا يتحول إلى ذكرى محزنة كالعادة.

وإذا كان البعض يستحضرون الذكريات الحزينة ليفسدوا على أنفسهم لحظة مرح، فمن الممكن بالمثل استحضار اللحظات الجميلة، فالنوستالجيا أو الحنين للماضي أمر مهم جدًا للصحة العقلية، فهو يعطي شحنة إيجابية للدماغ ويحرك العواطف ويطرد اللحظات السلبية من الشعور، والنوستالجيا آلية دفاع يستخدمها العقل البشري لتحسين الحالة النفسية ورفع المزاج الذي يتعرض مع الأسف للكثير من المنغصات؛ لذلك تكثر النوستالجيا عند كبار السن الذين يشعرون بالوحدة والضعف، كما تكثر عند الشاعرين بالملل، أو من تعرضوا لسوء التقدير ونكران الجميل؛ فالنوستالجيا ذكريات تعطي الإنسان جرعة سعادة تعينه على مواجهة تحديات لحظته الراهنة، وهي بكل المقاييس نعمة من الخالق.

إن النوستالجيا آلية ذهنية تمدنا بالسعادة وتشعرنا بالراحة، والخطر الوحيد من هذه الحالة يتجلى في التمحور حولها وعدم وضعها في إطارها الصحيح، فهي لا تعني الجمود عند الماضي وذكرياته والنظرة إليه بعدسات وردية مفرطة في الرضا والهيام، ولكنها تعني تذكر اللحظات الجميلة للإفادة منها في التفاؤل والأمل في المستقبل، فالحل إذن أن نتذكر ماضينا ونصنع حاضرنا ونعمل من أجل مستقبلنا وننفع الآخرين، فمن نفع الآخرين تأتي سعادتنا ويزول خوفنا.

إن خوفنا من السعادة مرض خطير وعلاجه في أيدينا، فبدلًا من الترحم على الماضي، وبدلًا من الثرثرة عن حالة الود بين الرفاق والجيران، والحسرة على الشهامة التي ذهبت مع الريح والأخلاق التي صارت ذكرى والحياة الراقية والذوق في الملابس والكلمات والفنون والآداب، والحياة الهادئة والشوارع النظيفة، والنفوس الطيبة، والترابط الأسري والوجوه الصافية، بدلًا من الحسرة على هذا كله لماذا لا نعيد ما كان ونحن قادرون على إعادته؟ لماذا نقف عاجزين ونكثر من الحزن على الماضي ونخاف من الفرحة في الحاضر ونرتعب من المجهول في المستقبل؟

خلاصة ما يمكن قوله إن حل أزمة الشيروفوبيا التي يبدو أن أكثرنا يعاني منها يكمن في خلق ثقافة القوة والأمل والاستهانة بالخطوب والعمل من أجل حاضر أفضل ومستقبل أجمل، وتجنب السفهاء لأن عشرتهم تؤدي حتمًا إلى المواقف المخزية.

وختامًا أدعو كل علماء النفس إلى مناقشة الأزمات النفسية الراهنة بكل جدية ودراستها بعمق مع وضع العلاج المناسب، لأن الصحة النفسية لا تقل أهمية أبدًا عن الصحة الجسدية، والمرض النفسي قد ينهي حياة المريض المسكين الواقع في براثن ضلالات وأوهام كان من الممكن تبديدها لو وجد العلاج المناسب، فلهذا يجب بكل ما أوتينا من قوة أن نحارب الخوف من السعادة وأن نسعد بحق لأننا لم نخلق للمعاناة.

ليفانت - حاتم السروي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!